نصوص من زمن البهيموقراطية(2) رسالة إلى معالي وزير التعليم العالي

Publié le par kzaghbani

معالي الوزير، تحية وسلاما وبعد:

بلغني بعظيم البهجة وكامل السرور نبأ التوصيات الحكيمة التي أصدرتموها من أجل القضاء على آفة الغياب والتغيب التي تفشت واستفحلت في المؤسسات الجامعية خلال السنوات الأخيرة. وإني إذ أثني شديدا على نباهتكم وعلى حرصكم البين على القضاء المبرم على هذا الداء الخبيث الذي نبت في خلايا جامعتنا الموقرة فإنني أرغب، بعد إذنكم طبعا، في دعم تلك التوصيات الحكيمة بتقديم عدد من المقترحات والإجراءات العملية التي من شأنها المساهمة، وإن على نحو متواضع، في تحقيق الأهداف والفوائد المرجوة:

1-    إعادة تصميم جداول الأوقات على نحو يسمح للمدرس بتدوين تقرير ضاف ومفصل عن الكيفية التي جرت – أو لم تجر- بها حصة الدرس. فالمطلوب حسب توصياتكم الحكيمة هو أن يقوم المدرس بعد كل حصة بتقديم إحصاء عن عدد الحاضرين (أو الغائبين) ومن ثمة بتحديد النسبة المئوية للغياب وللحضور. واسمحوا لي بالإشارة هنا إلى أن مسألة الحضور(والغياب) هذه تحتمل إلى جانب بعدها العددي الصرف الذي يمكن لأحقر آلة حاسبة أن تنجزه، تحتمل بعدا أهم وأخطر بكثير يتعلق بالنسبة الفعلية لحضور كل طالب أو طالبة وهي نسبة مرتبطة شديد الارتباط بالحالة الجسمية والنفسية والذهنية والاجتماعية والاقتصادية لكل شخص معني. وتحديد هذه النسبة الثانية يتطلب ولا شك جهدا وتركيزا كبيرين وبالتالي امتدادا زمنيا يساوي إن لم يكن يفوق زمن التدريس ذاته. وبما أن تدوين تقرير شاف وواف عن هذا الأمر يتطلب بدوره زمنا مساويا لكل من الزمنين الأولين فإن جدول أوقات كل مدرس ينبغي أن تراعى فيه ضرورة إتباع كل حصة درس بمثيلتين لها في الزمن يتم خلالهما تحقيق الغرضين المنشودين على أكمل وجه.

2-    بما أن درجة تركيز –أو عدم تركيز- كل مدرس مخبر تكون في العادة عرضة لشتى صنوف الطوارئ الممكنة فإنه من الأحرى والأجدر تركيز عدد من الكاميرات بكل قاعات الدرس والمدرجات والمخابر والمكتبات ومكاتب الاجتماعات وقاعات الندوات وغيرها حتى  تشكل الأشرطة المستخرجة من أحشائها وثائق سمعية بصرية دامغة تمكن المدرس-المقرر-المخبر-الواشي من استحضار كل التفاصيل التي تساعده على تدوين تقريره بكامل الأمانة المطلوبة.

3-    هذا الإجراء العملي لابد من تكملته بآخر يتمثل في توزيع بطاقات ممغنطة على جميع الموجودين في المؤسسات الجامعية ( أعوان أمن، إداريون، عملة، طلبة، أساتذة...) على أن يتم تركيز قارئات ممغنطة لتلك البطاقات أمام كل باب من أبواب المؤسسة المعنية بحيث يتسنى بسهولة فيما بعد التحديد الدقيق والمفصل للزمن الذي قضاه أي كان في أي مكان (قاعة درس، مرحاض، ساحة، مكتبة، مشربة، إلخ...)

4-    ضرورة التفكير عاجلا في إصلاح الهيكلة المعمارية لمؤسساتنا الجامعية بمختلف أصنافها. فالحالة (الحليلة) الحالية لهذه المؤسسات لا تسمح (إلا في ما قل وندر) برقابة جادة وبدرجة معقولة من الانضباط الممكن للعاملين بها. فأجزاؤها متبعثرة ومكوناتها غير منتظمة بحيث من الممتنع أن تسمح لرقيب مفرد بمعانقتها كلها ضمن مشهد بانورامي موحد. ولذا فمن المؤكد إعادة بنائها كلها على نمط تربيعي أو تدويري منسجم يتوسطه ناظور أو برج مراقبة يحتله رئيس منطقة الأمن بالكلية على أن يتم تزويد المرصد المذكور بكل تجهيزات المراقبة الحديثة وما بعد الحديثة. إن المعمار "البانوبتيقي" (panoptique) كان في الحقيقة سائدا في السجون والثكنات والمعازل والمشافي النفسية والمصانع والمدارس في أوروبا خلال القرن التاسع عشر. ما الضير إذن في الاستفادة منه وفي تطويره في جامعاتنا؟ كأن تكون المادة التي تبنى منها القاعات مادة شفافة تسمح للرقيب برؤية كل ما يدور بداخلها دون أن يراه أي كان من الذين هم داخلها؟

5-    أخيرا وليس آخرا، وبما أن كل التجهيزات والتقنيات لا يمكن أن تعطي أكلها ما لم تكن مدعومة بدرجة كافية من الوعي لدى كل من يستعملونها أو من تستعمل لإخضاعهم فإنه لا بد من توجيه قدر لا بأس به من الطاقات الجامعية نحو تكوين علمي متين في مادة الإخبار أو الوشاية والوشاية الذاتية. فمن المعلوم أن هناك الآن عددا من المواد التي يتم تدريسها في أغلب المعاهد والكليات بقطع النظر عن طبيعة اختصاصاتها وهي مواد الأنقليزية والإعلامية  وحقوق الإنسان. إلى هذه المواد إذن لا بد من إضافة مادة الوشاية ولا بد أيضا من منحها ضاربا يفوق ضوارب المواد المذكورة. على أنه من المؤكد تكوين ورسكلة عدد محترم من العاملين بقطاع الجامعة تكون مهمتهم الأساسية رفع هذه الممارسة إلى مستوى الفضيلة-القيمة الأخلاقية العليا التي لا يستقيم بدونها أمر الجامعة والمجتمع معا. إن إسناد الاعتبار الأعلى إلى المخبر-الواشي والواشي بذاته تحديدا هو السبيل الأسلم والأيسر لجعل التقارير التي يكتبها المدرس عن درسه وعن زملائه وعن طلبته (والطلبة عن مدرسهم وعن زملائهم) حاملا لقيمة حضارية عليا. قيمة التونسي الحر الأصيل الذي لا يتوانى عن الوشاية بغيره وبنفسه إذا كانت مصلحة الوطن العليا تتطلب منه ذلك.

معالي الوزير، لقد نبتت مختلف هذه الاقتراحات البناءة في ذهني البسيط حالما علمت بنبإ توصياتكم الحكيمة وغير المسبوقة لا من السادة الوزراء (سامحهم الله وغفر لهم هذا التقصير الشنيع) الذين تداولوا قبلكم على هذه المسؤولية الجسيمة ولا حتى من وزراء التعليم العالي في مختلف الدول الشقيقة والصديقة (وحتى العدوة، وإن لم يكن لدولتنا والحمد لله أعداء). إن حيازتنا لقصب السبق في هذا المضمار هو أمر لا بد في نظري من الافتخار به بين الأمم وكذلك من استغلاله عبر تصديره مثلا إلى الدول التي تشكو جامعاتها الوطنية من نفس الآفة المهلكة. وهي في الواقع إجراءات تتوفر إلى جانب فوائدها الأساسية على عدد هام من الفوائد الجانبية التي يشرفني أن أسرد لكم بعضها:

أولا: توفير عدد كبير من مواطن الشغل لهؤلاء الطلبة الذين ألهتهم عن حضور الدروس قناعتهم المسبقة بالبطالة اللعينة التي سيؤولون إليها بعد تخرجهم. إذ سيتم استعمالهم في بناء المؤسسات الجامعية الجديدة وكذلك في تشغيل وتعهد مختلف الآليات المستحدثة التي سيتم تركيزها لتحقيق مختلف الأهداف المرجوة. وكذلك في رقن التقارير الضافية التي ستكتب عن غيابهم. وهذا ما سيحفزهم طبعا على مزيد الحضور!

ثانيا: إن الكاميرات التي سيتم تركيزها في المواقع المذكورة ستمكن إلى جانب دورها الرقابي الانضباطي الفعال من توفير مادة سمعية بصرية شديدة التنوع والثراء يمكننا بعد جردها وترتيبها وتصفيتها من جعلها منطلقا لعدد كبير من الأفلام والمسلسلات والسكاتشات والسلاسل الهزلية التي يمكننا أن نسوقها في الداخل (فنحل بذلك جزءا من أزمة الإنتاج الدرامي الذي لن يبقى حينها مقتصرا على شهر الصيام) والخارج ( فتشع صورتنا ونحصل على عملة صعبة أصبحت عزيزة الطلب في زمن الأزمة المالية المستفحلة في عالمنا الرأسمالي هذا) ومن استغلال ريعها الوفير في توريد أجهزة أحدث وأحدث من أجل تطوير لا يتوقف أبدا لجودة الرقابة والانضباط والوشاية التي هي من وراء القصد. يمكننا مثلا أن نطلب من أصدقائنا اليابانيين أن يصنعوا لنا ضربا من الأطواق الإلكترونية (colliers électroniques) يزود بها كل المشتغلين بالجامعة وتسجل عليهم بلا انقطاع كل حركاتهم وسكناتهم، ولم لا أفكارهم وخواطرهم وحتى أحلامهم بعد أن نقنعهم (بفضل الدروس المكثفة والمعمقة التي سندكهم بها في الوشاية والوشاية الذاتية) بأن لا ينزعوها حتى أثناء نومهم. ويمكن للصين الشعبية أن تتسلم المشعل من اليابانيين فتصدر لنا القارئات والبطاقات الممغنطة التي ستباع حينها بالأسواق الموازية وبأسعار بخسة جدا. هذه الأسواق التي يشتغل بها بعد عدد لا بأس به من خريجي جامعاتنا خلال السنوات العشر الماضية. ولأنهم يعرفونها على وجه الدقة فسيكونون مؤهلين لتمكيننا من اقتناء ما نريد بأرخص الأسعار كما يمكنهم كذلك رسكلة زملائهم الجدد في كل ما يتعلق باحتياجاتنا داخل تلك الميادين المتشعبة.

ختاما: اسمحوا لي معاليكم بتجديد علامات غبطتي وآيات ثنائي على توصياتكم الرائعة التي جعلت قريحتي تتفتق بعد سبات طويل عن كل هذه الأفكار وعن أفكار خلاقة كثيرة أخرى أريد طمأنتكم على استعدادي اللامشروط لتزويد مختلف مصالحكم بها إذا ما شعرتم بضرورتها وبالحاجة إليها. ديدني في ذلك حرصي الشديد على مصلحة الجامعة التي أنا أحد المقتاتين من فضلها وعلى مصلحة هذا الوطن العظيم الذي يحضننا جميعا وينوء بحملنا على أرضه العريقة المعطاء. والسلام.

c0ed8f06bb3a2aee.jpg

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article