مقدمة كتابي المقبل: أخلاط....كتابات من زمن البهيموقراطية...كتابات من نبض الثورة

Publié le par kzaghbani

على سبيل التقديم

 

 

 

ينقسم هذا الكتيّب إلى جزأين:

في الجزء الأوّل بعض النصوص التي كنت كتبتها ونشرت بعضها (على صفحات "الطريق الجديد" و"الموقف" وملحق "منارات" بجريدة "الشعب" وفي مجلة "الأوان" الإلكترونية) ولم يتسنّ لي نشر البعض الآخر للأسباب التي بات الجميع يعلمها. أعيد نشرها هنا بغاية أن يطّلع عليها أكبر عدد من القرّاء، خصوصا وأن المنابر المذكورة لم تكن دوما متاحة للغالبية العظمى من القرّاء بسبب الحصار الذي كان مضروبا عليها وبسبب التجويق "التبهيمي" الذي كان نظام بن علي يمارسه على عقول التونسيين بالتواطؤ مع جهاز إعلامي منغلق وقمعي ومع وسط ثقافي كانت تسيطر عليه عصابات من المنتفعين والمتزلّفين.

من ثمّة جاء اختياري على لفظة "البهيموقراطية" لتوصيف الحقبة البنعليّة في تونس رغم أنها لفظة تصلح أيضا لتوصيف أشكال الحكم التي سادت المنطقة العربية عموما بعيْد تحرّرها من الاستعمار الأجنبي لتقع بين أيدي مستبدّين تعاملوا مع أبناء شعوبهم لا باعتبارهم مواطنين وإنما رعايا بل أطفالا قصّرا لا يحقّ لهم التفكير في أمرهم ناهيك عن المشاركة في الحياة السياسية وفي الحراك التاريخي لبلدانهم. بل إنني أكاد أجزم أن هذا الشكل من الحكم هو سمة التاريخ الإنساني المعاصر بكل مجتمعاته، "متقدّمة" كانت أم "متخلّفة"!! فالبهيموقراطية، كما عرّفتها على نحو عابث في مقال عن التلفزة والإشهار (أنظر ص....) هي ذلك النوع من الحكم السياسي الذي يجعل من الحمق والغباء والتبلّد الذهني والثقافي والعاطفي قاعدة عامّة ونظام وجود يقع زرعه في عقول الجموع ومخيّلاتهم على نحو نسقي يتمّ من أجله تجييش كلّ الآليات "التبهيمية" الممكنة. وهو أمر يجعل من الذكاء ومن الفعل ومن فن الحياة المبدع أشياء نادرة واستثنائية هي إلى الشذوذ أقرب إن لم تكن ضروبا غير معهودة من البلاهة والجنون.

تختلف كلّ من "البهامة" (bêtise) وقرينتيها الحماقة (sottise) والغباوة (stupidité) عن البلاهة (idiotie) من جهات عدّة. كما يختلف "المُبَهَّم" والأحمق والغبي في الوقت ذاته عن الساذج (le naïf) وعن "الكانديد"[1] (le candide). لن أدخل هنا في تمييزات معجمية أو مفهومية دقيقة قد لا يتّسع المجال لها. يكفيني التأكيد إذن على أن النعوت الثلاثة الأخيرة تشير إلى شخصيات مفهومية موجبة ومبدعة رغم تغايرها مع نمط الذكاء والتفكير السائدين. إن شخصيات مثل دون كيشوت لدى سرفانتيس أو كانديد فولتير أو جاك القدري لدى ديدرو أو الأمير مشكين (الأبله) لدى دوستويفسكي، هي بهذا القدر أو ذاك شخصيات "جحائية" تجمع على نحو مفارق بين أقصى الحكمة وأقصى الجنون. وهي من ثمّة لا تني تقوّض بأقوالها وأفعالها رؤيتنا للإنسان وللعالم معا وتفتّح أعين فكرنا على أبعاد في الكينونة لا ترقى إليها العين الوسطية المنغمسة في اليومي والمتداول. هذه العين الأخيرة هي تحديدا ما يجمع بين "المبهّم" والأحمق والغبي لأن الثلاثة يغترفون معاني وجودهم وقيم حياتهم ممّا هو سائد ومهيمن ومتداول أي ممّا تزرعه في أذهانهم سائر السلطات القائمة.

بهذا المعنى تكون البهامة (وليس الصواب كما قال ديكارت) هي "أعدل الأشياء توزيعا بين الناس". فالصواب (le bon sens) مثله مثل الحس المشترك (le sens commun) ليسا في واقع الأمر سوى اسمين ملطّفين للبهامة طالما أنهما يرجعاننا كليهما إلى السائد والمألوف والمطمئن. أمّا الإقامة المبدعة في الذات وفي العالم فهي تقتضي الاختراق والمغامرة وطلب الصعب والممتنع....إنه اجتراح لمعان جديدة ولقيم فريدة على كافة الأصعدة السياسية والإيتيقية والإستيتيقية. معان وقيم قد تبدو "للإنسان المبهّم" ضروبا من الجنون....لكن أليست الثورات ذاتها ضروبا من الجنون في تقويضها للبهيموقراطية المهيمنة؟!!

 

أمّا في الجزء الثاني فإنني أقترح عددا من النصوص الفكرية والسياسية والتأريخية تجمّعت لديّ منذ اندلاع الثورة التونسية في شكل قراءات للاعتمالات البعيدة والقريبة التي جعلت انبلاجها ممكنا رغم فجئيّته المبهرة. وهي نصوص فيها مراوحة بين التحليل النظري لخصائص الثورة وجدّتها بالنسبة لما سبقها من الثورات وكذلك لمكوّناتها وللآفاق التي أرى أنه من الأجدر المضيّ بها نحوها، وبين المواقف الآنية التي حاولت من خلالها أن أسهم على طريقتي في بعض الحوارات التي كانت تدور هنا وهناك بفعل الخلافات والاختلافات التي عاشتها الساحتان الفكرية والسياسية في الأشهر اللاحقة للحظة 14 جانفي الاستثنائية والفارقة في تاريخ البلاد.

 

ولا شكّ أن القارئ سينتبه إلى التنافر الشديد بين النصوص الواردة هنا أو حتى بين المكوّنات الداخلية للبعض منها فيما بينها، سواء من جهة النبر (الجادّ حينا والهازل أحيانا) أو من جهة الأساليب وأجناس الكتابة التي تنتمي إليها. فأنت واجد فيها جنبا إلى جنب الشعريّ والسردي والفكريّ والتأريخي والسياسي المباشر. ناهيك عن أن بعض النصوص هي أصلا ترجمات من الفرنسية (حوارات كلّ من جيل دولوز وتوني نغري). لن أسهب هنا في تفسير هذه الظاهرة حتى لا أفسد على القارئ النبيه لذّة تأويلها على طريقته، وسأشير فقط إلى أنني ولعت منذ سنوات بالسعي إلى كسر الحدود الفاصلة بين أجناس الكتابة وأنماطها انطلاقا من قناعة قد لا يشاركني فيها الكثيرون مفادها أن تعدّد الأجناس والأساليب والنبرات داخل النص الواحد أو الكتاب الواحد من شأنه أن يمنحه ثراء وفرادة وقوّة تعبيرية قد لا يتوفّر عليها النص الملتزم على نحو صارم بجنس في الكتابة مخصوص أو بأسلوب فيها مرسومة حدوده ومعالمه واقتضاءاته سلفا. ولعلّ ما يضاهي هذا التصاوت القائم على التنافر(désharmonie) هو فنّ الكولاّج الذي طالما استهوتني فكرة الاستفادة من قوّته التعبيرية في فنّ بعيد عنه هو فن الكتابة. كما أنني مدين في هذا لكتّاب استثنائيين اخترقوا قبلي وعلى أنحاء شتى تلك الحواجز والحدود، من مثل نيتشه وبروست وسيوران وميشيل ليريس وجيل دولوز وغيرهم. وربما كان ذلك أيضا تعبيرا عن إرادة في داخلي ترمي إلى تقويض الواحدية والتوحيد بمختلف أبعادهما الميتافيزيقية والفنية والأخلاقية والسياسية. أليست الواحدية وعبادة الشخص الواحد الأحد هي الداء الأعظم الذي عانت ومازالت تعاني منه بلداننا التي ازدهر فيها كما لم يزدهر في غيرها يوما هذا الاستبداد البهيموقراطي الذي جاءت الثورة التونسية تبشيرا ببداية الخروج منه؟                    

       

 

 



[1] - يصعب فعلا ترجمة هذا اللفظ إلى العربية....

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article