ماذا بقي من ماي 68 ؟

Publié le par kzaghbani

Mai-68.jpg

أربعون سنة مضت على تلك الأحداث التي هزَت العالم ومازالت المقاربات تتعدد وتختلف وتتناقض حول جذورها وفواعلها و"أبطالها" ومغازيها السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية على نحو عام. ما الذي يمنحها إذن هذه الحياة الداخلية التي تجعلها سؤالا غير قابل لأن يستوفى ضمن طرح أحادي أو ضمن إجابة نهائية مهما كان نوعها؟

 

لنستبعد أوَلا عددا من المواقف و"القراءات" الاختزالية التي لم تنفكَ تحط من شأن هذا الحدث عبر حصره في هذا أو ذاك من أبعاده الثانوية:

1-                       لم يكن ماي 68 مجرَد حركة احتجاج فرنسية مخصوصة ناهيك عن أن تكون باريسية فحسب، كما حاول البعض تصويرها. فمنذ بداية الستينات وفي كامل أرجاء أوروبا والولايات المتَحدة بدأت ترتسم معالم انتفاضة عارمة شملت مختلف جوانب النظام الرأسمالي ومِؤسساته المختلفة. بل إن هذه الانتفاضة مسَت عددا من مجتمعات العالم الثالث مبشَرة بوحدة النضالات والتطلَعات التي ستكون بعد عقود السمة الأساسية لحركات العولمة المغايرة. ولعل ما يقوله ميشيل فوكو في حوار شهير من أنه عاش تلك الأحداث على نحو عميق وحاد منذ مارس 68 في تونس بالذات (حيث كان يأوي بمسكنه الخاص فلولا من الطلبة المتظاهرين الذين كانت تلاحقهم فرق مقاومة الشغب وتنكَل بهم جسديا ونفسيا قبل أن يرمى بهم في سجون يقضون فيها جزءا لا بأس به من شبابهم)  خير دليل على هذا البعد الكوني الذي اتخذته وما انفكَت تتَخذه في أذهان الذين واكبوها(انظر: Dits et écrits,Gallimard, t.4 ).

2-                       لم يكن ماي 68 تعبيرا عن التقاء غير طبيعي بين عدد من تيارات اليسار المتطرَف التي كانت تهيمن على الجامعات بعيدا عن الحراك الاجتماعي الحق في أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فاحتجاجات الطلبة وبدائلهم الثورية سرعان ما رفدتها وحملت لوائها قطاعات واسعة من العمَال والفلاَحين والمهمَشين ناهيك عن المثقفين والفلاسفة والفنانين على اختلاف انتماءاتهم ومجالات اشتغالهم (جون لوك غودار في فرنسا، شعراء وروائيو وسينمائيو " الأندرغراوند" في الولايات المتحدة..الخ).

3-                       أخيرا، لم يكن ماي 68 حركة "فوضوية" (بالمدلول السالب للَفظ) تشرَع للعنف الأعمى وتفتقر لأي عمق نظري أو أفق سياسي واضح على زعم أن الفاعلين فيها لم يكونوا غير شباب جامعي لا غاية له سوى كسر الرموز القديمة والتشريع لحياة سياسية واجتماعية وجنسية متحرَرة من كل الضوابط والقوانين والقيم.

 

بعد استبعاد هذه الاختزالات المشينة وغير البريئة (التي نجدها في الخطابين الفكري والسياسي لليمين الجديد المتحكَم حاليا في مصائر الشعوب الأوروبية وغيرها والمهيمن على وسائل الإعلام فيها، على غرار من يسمَون بالفلاسفة الجدد الذين من كتاباتهم "استلهم" نيكولا ساركوزي سبابه لماي 68 وأفكاره خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في فرنسا) يمكننا أن نحاول تلمَس بعض خلفيات ومعاني تلك الأحداث التي لا يمكن استيفائها حتى بعد أربعين سنة.

تزامن ماي 68 مع وضعين عالميين رئيسيين: المكارثية من جهة وفضيحة الستالينية من جهة ثانية. في الوضع الأول كانت هناك سياسة سعت من خلالها الرأسمالية إلى تجديد نفسها عبر ضخ الأموال إلى القوى الموالية لها في إطار سياسة "التصدي للخطر الشيوعي الداهم". وفي الوضع الثاني كانت قد انكشفت فظاعات النظام السوفييتي عبر آلاف المقتولين والمشردين الذين كانوا له ضحايا. كانت الرأسمالية تحاول تجديد نفسها من خلال محاولة استعادة كل القوى التي كان منذورا لها أن تكون معادية لها. لكنها في الوقت ذاته كانت تمنح إمكان الوجود لقوى جديدة أكثر شراسة ومضيا في مواجهتها: لم تعد البروليتاريا التقليدية التي بشَر بها ماركس وأنغلس في طليعة القوى المناهضة للمد الرأسمالي، بل أصبحت هناك قوى جديدة مشكَلة من الطلبة والمهمَشين والموظفين الصغار أصبحت ترى في النظام الرأسمالي عدوَها الرئيسي. هذه القوى الجديدة كان احتجاجها فلسفيا في راديكاليته: كانت في الوقت ذاته تناهض النظام السياسي والاجتماعي القائم، والأحزاب الشيوعية التقليدية بكل الإعاقات التي كانت تحملها باعتبارها لم تكن سوى لسان حال شكل آخر من أشكال تكبيل طاقات الإبداع في أجيال جديدة من المفكرين والمبدعين والفاعلين السياسيين.

 

ضمن هذا الأفق تحديدا اكتشف روَاد الحركات الاحتجاجية عددا من المفكَرين والفلاسفة الذين جدَدوا من داخله فكر المناهضة المقترن حتما بإبداع مفاهيم ورؤى جديدة: من جهة كان هناك هربرت ماركوز وفيلهالم رايش باعتبارهما الممثلين الأكثر تعبيرا عن مدرسة فرنكفورت ورؤيتها المجددة للماركسية وللفرويدية معا، ومن جهة ثانية كان هناك فلاسفة مثل دولوز وفوكو وكلوسوفسكي ودريدا وبلانشو(الذين أطلق عليهم فيما بعد "فلاسفة الاختلاف") أعادوا النظر من موقع نيتشوي في تاريخ الفلسفة برمَته مبشرين بإمكان علاقة جديدة تماما بين الأنطولوجي والسياسي والإيتيقي والإستيتيقي.

 في مؤلَفه الأساسي (الذي قيل عنه فيما بعد أنه شكَل "إنجيل أبناء ماي 68") الإنسان ذو البعد الواحد يؤكَد ماركوز على فكرة أساسية: إذا كانت الرأسماية قد استطاعت تجديد نفسها والانفلات من حالة الانفجار التي كانت تهدد وجودها ذاته فإن ذلك قد حصل من خلال استيعابها للقوى التي كانت مؤهلة فبل غيرها لمناهضتها والإطاحة بها. لقد خلقت نوعا من "الرفاه البروليتاري" عبر عدد من الامتيازات ووسائل الترفيه لهذه الطبقة التي كان مقيضا لها أن تكون العدو الرئيسي للنظام الرأسمالي. لكن تلك السياسة ذاتها خلقت- حسب ماركوز دائما- فئات جديدة ومستقبلية بالضرورة من المناهضين للنظام الرأسمالي في أساسه ذاته: هذه الجموع من المهمَشين والمعطَلين الذين سيكون لهم في المناهضة المطلقة فعل وجود.

في الوقت ذاته كان فيلهلم رايش يطرح من جديد سؤالا سبينوزيا بالغ العمق: ما الذي يجعل الجموع ترغب في قمعها الخاص كما لو كان صنوان تحرَرها؟ بمعنى آخر لماذا كانت هناك النازية والفاشية والبيروقراطية الأمريكية والكليانية الستالينية وكل المآسي التي جلبتها جميعها على الإنسانية؟ رغم وفاته المبكرة كان رايش قد ساهم في إعادة طرح السؤال السياسي على نحو مستجد تماما عبر ربطه مباشرة بمفهوم الرغبة، لا في بعديها الأنثربولوجي أو السيكولوجي، كما كان الأمر مع هوبز وهيغل ثم مع فرويد، وإنما في بعديها الإيتيقي والسياسي: الرغبة بما هي المحرَك الفعلي للتاريخ سواء على نحو ارتكاسي أو على نحو تحرَري. الرغبة في مستوييها الفردي والجماعي معا. الرغبة بما هي قابلة لأن تطوَع لوجود انفعالي وسلبي، والرغبة بما هي المنطلق الحق لفعل الإبداع وللتحرَر الملازم له مع كل الأخطار التي لا تنفك تهدده.

كانت كتابات هذين الفيلسوفين تتناقل بلهفة بين المثقفين وشبان الجامعة في ذات الوقت الذي كانت فيه الصيغ الجديدة للفكر الماركسي تشق لها بينهم طريقا بعيدا عن جمود الأحزاب الشيوعية المتكلسة في تبعيَتها العمياء للأخ الأكبر السوفييتي الذي كانت قد انفضحت ممارساته البشعة. وضعياتون (situationnistes)، تروتسكيون وماويون كانوا يمتحون من كل المصادر الممكنة من أجل فكر يساري جديد وممارسة سياسية جديدة قادران على استيعاب التجديدات العميقة التي عرفتها الرأسمالية بعد تحليلات ماركس وأنغلس وعلى مناهضتها على نحو فاعل وخلاَق.

 

لذلك كانت كتابات ميشيل فوكو عن العيادة وعن السجن وعن مختلف أشكال المراقبة والمعاقبة (الجيش، المدرسة، المصنع..الخ) وكذلك كتابات جيل دولوز وفيليكس غاتاري عن الرأسمالية والسكيزوفرينيا انطلاقا من مركزية مفهوم الرغبة ومن نقد جذري للفرودية باعتبارها تأبيدا للنموذج الأوديبي واختزالا مشينا للكائن ومختلف صراعاته ضمن المثلَث العائلي العتيق، كانت تلك الكتابات وغيرها قادحا جديدا ونتاجا في الوقت ذاته لحركة ماي 68 فكرا وفعلا. ذلك أنها أعادت النظر راديكاليا في مسألة السلطة وفي كيفية اشتغالها دون حصرها في الأقانيم الماركسية التقليدية ولكن أيضا دون إنكار المكتسبات الكبرى للتحليل الماركسي التي كان ألتوسير وتلامذته يعيدون قراءتها ويجدَدونها على نحو خلاَق.

هذا التنوَع الشديد من جهة المصادر النظرية كما من جهة الآفاق التي كان يراد افتتاحها شكَل الفرادة الفعلية لفكر ماي 68 وساهم أيضا في خلق نموذج جديد من المثقَف الفاعل ومن المناضل اليساري. وهو ذات التنوَع الذي يرجمه أعداء ماي 68 القدامى منهم كما الجدد بصفة "الفوضية" حينا وبطابع "اليوتوبيا" طورا، غير مدركين ما في هاتين الصفتين من بعد مبدع في الفكر وفي الفعل معا. أصبحت أفعال النقد والكشف والهدم تشمل مجتمع المشهد (غي ديبور) والمدرسة (إيفان إيلتش) وتاريخ الفكر نفسه (دريدا). كما أن المثقف الفاعل لم يعد ذاك الذي يمتلك رؤية شاملة ويتدخَل باسم قيم عليا ومتعالية في ما يحدث تاريخيا (سارتر) وإنما ذاك الموقعي أو الميكروسكوبي الذي يلاحق بدأب وأناة ميكانيزمات السلطة والتسلَط ويتصدى لها ضمن مستويات دقيقة ومحدودة لكنها حاسمة في تعبيرها عن كل هيمني منبث في كافة ثنايا الوجود الفردي والجماعي لللأفراد (فوكو). كما أصبح هناك تنبَه نقدي مبدع لما يحدث في العالم المسمى ثالثا من إسهامات جديدة في محاولة خلق أشكال وجود وقول وفعل جديدة ( الجزائر،كوبا، فلسطين..الخ).

أخيرا، لئن كان يمكن القول "بفشل" ماي 68 بالمعنى السياسي، فإن ذلك لن يستقيم إلا إذا ما نظرنا له من جهة كونه حركة سياسية فشلت في تحقيق مبتغاها: الانقضاض على جهاز الدولة وتركيز نظام حكم جديد (مثلما حدث في الثورتين الفرنسية والبلشفية). وقد رأينا أن مثل هذا الطرح يبقى قاصرا واختزاليا أمام عمق وثراء مضامين وأبعاد الحدث الذي يبقى مفتوحا (حتى بعد أربعين سنة) على احتمالات غير قابلة للنضوب أو للضمور. وما الآفاق الجديدة التي تفتتحها حركات العولمة المغايرة وشبكاتها الاختلافية وفي تجديداتها العميقة لفكر اليسار ولفعله إلا خير دليل على ذلك.                        

                    

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article