مسار الثورة التونسية بين ممكنات الإبداع ومخاطر الانتكاس

Publié le par kzaghbani

هل كتب على التاريخ التونسي أن يكون عودا أبديّا على بدء؟ في نهايات القرن التاسع عشر، ترهّل حكم البايات بفعل الإفلاس السياسي والفساد المالي الفاحش الذين أدّيا إلى انتفاضات شعبية عارمة في الجنوب وفي الوسط الغربي حمل لوائها الفلاّحون المفقّرون بقيادة علي بن غذاهم، وإلى بروز نخبة حضرية من الحرفيين ومن المفكّرين المتنوّرين الذين دعوا إلى إصلاحات سياسية واجتماعية يضيق أو يتّسع مداها بحسب درجات قرب أو بعد أصحابها من قصر السلطان. وحرّك الوضع التونسي المتردّي أطماع القوى الاستعمارية العظمى التي كانت بصدد تقاسم أعضاء "الرجل المريض" أي الإمبراطورية العثمانية التي كان عمرها الافتراضي قد انقضى بفعل حركة التاريخ التي كانت تقودها الرأسمالية الأوروبّية الفتيّة الظافرة. وهكذا كانت تونس (بعد الجزائر) لقمة سائغة التهمتها فرنسا مقابل تنازلها عن الجزء الأكبر من المشرق العربي للمملكة البريطانية. لكن الصيغة المعلنة لذلك الاحتلال كانت عبر إبرام "عهد الحماية" الشهير، لا حماية البلاد من الأطماع الأجنبية ومن حالة عدم الاستقرار كما وقع التسويق له، وإنما حماية البايات أنفسهم من الأخطار التي كانت تتهدّد عرشهم الهش بعد تجريدهم من كل سلطة فعلية وبعد أن تركت لهم قصورهم الباذخة التي كانوا ينعمون فيها بشتى الملذات. ولكن أيضا وبالخصوص حماية مصالح فرنسا الاقتصادية عبر إطلاق أيدي "المعمّرين" في ثروات البلاد الفلاحية والمنجمية على وجه الخصوص. من الجنوب ومن الوسط الغربي مرة أخرى انطلقت شرارات الرفض والمقاومة منذ عشريّات القرن المنقضي سواء عبر الحركات الشعبية المسلّحة (محمد الدغباجي وبقية رفاقه ممّن سمّوا "الفلاّقة") أو التنظيمات النقابية المناضلة والاجتماعية التنويرية (محمّد علي الحامي والطاهر الحدّاد) لتردفها مرّة أخرى نخبة حضرية إصلاحية عروبية ثمّ "متفرنسة" (حزب الدستور بمختلف أطواره واتحاد الشغل الذي كان له رديفا وبدرجة أقل الحزب الشيوعي التونسي) قادت حركة التحرير وأفضت إلى الاستقلال ومختلف أشكال التحديث السياسي والاجتماعي والتعليمي. لكن الاستقلال كان أيضا نوعا من العقد الضمني بين الدولة التونسية الناشئة وبين القوّة التي كانت تحتلّها، عقد تحافظ فيه الأولى على مصالح الثانية على كافة المستويات الاقتصادية والجيوسياسية (خصوصا إبّان حرب الجزائر). لذلك بقيت قطاعات واسعة من القوى التي كانت منخرطة في حركة التحرير مصرّة على مواصلة حراكها الثوري المناهض متعرّضة إلى قمع ضار من قبل أجهزة الدولة الجديدة وحزبها الحاكم الذي استولى على كامل الصلاحيات ووضعها بين يدي "المجاهد الأكبر". وكانت التنمية غير المتكافئة بين المناطق التي دفعت أبهظ التضحيات من أجل التحرير (الجنوب والوسط الغربي) والمناطق التي تشكّلت منها النخب المكوّنة للحزب ولأجهزة الدولة (المدن الساحلية الكبرى) واحدا من العوامل الأساسية التي جعلت فعل المناهضة يتوسّع ويتنامى ضد الديكتاتورية البورقيبية التي تمّ أواسط السبعينات تأبيدها دستوريا عبر إقرار الرئاسة مدى الحياة. في مرحلة لاحقة شملت المناهضة شبابا طلاّبيا وتلمذيا ذو نزعة يسارية ثورية معلنة (حركة "آفاق" ثمّ "العامل التونسي" ومختلف التشكيلات التي تناسلت منهما) لم يمنعه ترعرعه في أحضان السياسة التعليمية البورقيبية من النضال من أجل نموذج اجتماعي أكثر عدالة ونموذج سياسي تقدّمي معاد للإمبريالية والصهيونية. وهو ما حدا بالدولة البورقيبية إلى التراجع عن الطابع التنويري الليبرالي للبرامج التعليمية وإلى تكثيف البعد العروبي والإسلامي فيها من خلال التعريب النسقي والمتسرّع للمواد الحساسة مثل الفلسفة والتاريخ ومن خلال إدراج مادة "التفكير الإسلامي" التي كانت تبثّ مضامين معادية لكل فكر تقدمي تحديثي على أساس أنه "مذاهب إلحادية". وهو ما أدّى إلى تعزيز صفوف حركة إسلاموية ناشئة كانت امتدادا لحركة "الإخوان المسلمين" ذات الأصول الوهابية والتي تنامت في مصر بالخصوص بسبب انتكاسات النماذج التقدّمية العربية بفعل ديكتاتوريتها وهزائمها المتتالية أمام العدوّ الصهيوني. وهكذا وجدت الجماعة الإسلامية التي ستسمّي نفسها "الاتجاه الإسلامي" في بداية الثمانينات (حركة النهضة حاليا) في الصراع بين بورقيبة و"أبنائه" اليساريين أرضية خصبة ليتحرّك بحرّية شبه كاملة ويصدر في أواسط السبعينات مجلّة ناطقة باسمه (المعرفة) كانت تنجز تقنيا في ذات المطبعة التي كانت تصدر عنها جرائد "الحزب الاشتراكي الدستوري" الحاكم ("العمل" و"لاكسيون") ويحشد حوله جموعا من الشباب التلمذي ثمّ الطالبي القادم من المناطق المفقّرة والمحرومة أو من الشباب الحضري المنتمي إلى البرجوازية الصغيرة والموجوع بسؤال الهوية والنرجسية المجروحة بفعل الهزائم العربية المتتالية، ثمّ المبهور بالنموذج "الثوري" الإيراني الذي كان يرفع شعارات مغرية من قبيل "تصدير الثورة" وتحرير "الأمّة الإسلامية" بدءا بفلسطين من الهيمنة الصهيونية والإمبرالية الغربية "المستكبرة" بقيادة "الشيطان الأكبر" الأمريكي. في الأثناء لاذت تشكيلات متعددة من قوى اليسار المقموع بالاتحاد العام التونسي للشغل الذي كانت قياداته تتراوح في علاقتها بالاستبداد البورقيبي الدستوري وبحسب مصالحها وحساباتها وتوازناتها الداخلية، بين أقصى تعبيرات المساندة والاندماج (الجبهة الوطنية) وأعلى أشكال النضال والمقاومة من أجل استقلالية القرار ومن أجل مطالب اجتماعية ومعيشيّة (إضرابات 1978 و1984). ولكن تلك التشكيلات اليسارية لم ترتق إلى مداها النضالي الأرقى إلاّ في الحقل الثقافي والإبداعي في المجالات الأدبية والمسرحية والسينمائية منشئة على نحو فريد ورائد حراكا ثوريا أصيلا ظلّت جذوته متّقدة رغم مختلف أشكال القمع والتضييق والتهميش. وهي في نظرنا ذات الجذوة التي ما كان ممكنا لولاها أن تندلع الثورة التونسية بما هي أولى ثورات القرن الواحد والعشرين والنموذج الذي ستحتذيه ثوراته المقبلة. وهو ما يؤكّد أن أي فعل سياسي لا تسنده رؤية فكرية وثقافية عميقة منذور ضرورة لإعادة إنتاج الاستبداد. ترهّل النظام البورقيبي بدوره بفعل الشخصنة المفرطة التي ميّزته وبفعل تغوّل الحزب الحاكم وامتزاجه الكامل بأجهزة الدولة وصراعات المواقع والمصالح بينه وبين المنظمة العمّالية الوحيدة التي كانت هيكلتها الهرمية العمودية محاكية على المستوى التنظيمي لهيكلة الحزب الحاكم ذاته. واقتضت المصالح البرجوازية الداخلية والإمبريالية الخارجية أن يتمّ ترميم البيت السياسي التونسي لمّا صار البديل الإسلاموي الذي وفّرت له الدولة البورقيبية شروط الهيمنة قوة نافذة في الأوساط الاجتماعية الدنيا والوسطى وتعبيرة متماسكة عقائديا وإيديولوجيا في مقابل وسط سياسي يساري متشظ ومرتبك بسبب بوادر انهيار النموذج السوفياتي. وسط ذلك الخراب العميم، طلع على المشهد جنرال دموي كان قد انتصب في غفلة من الجميع (ما عدا المخابرات الأمريكية) وزيرا أوّل قرأ في السابع من نوفمبر بيانا كان يختزل لحظتها، شكليا على الأقل، تطلّعات جموع كبرى من التونسيين الذين كانوا قد ضاقوا ذرعا بالتجويق الحزبي وبالسياسة الإقصائية التي ساهمت في تفقير وتهميش قطاعات واسعة من المجتمع التونسي ومن طبقته الوسطى على وجه التخصيص. هلّلت الغالبية العظمى من المثقفين والسياسيين ولاسيّما من الأحزاب الإصلاحية ومن القوى المحسوبة على اليسار، إلى جانب الإسلامويين أنفسهم، لذلك الخطاب باعتباره قد فتح المجال واسعا أمام عقد سياسي واجتماعي جديد يسمح لمختلف الأطراف بالاصطراع السلمي ضمن لعبة ديمقراطية ليبرالية مفتوحة. واصطفّت معظم التشكيلات المعارضة سابقا وراء مشروع "العهد الجديد" عبر انضوائها ضمن ما سمّي وقتها "الميثاق الوطني". لكن حالة الهدوء الحذر والمتفائل التي عرفتها البلاد لم تدم طويلا. فقد كشّر الإسلاميون سريعا عن أنيابهم وشرعوا في مهاجمة المكتسبات التحديثية التي عرفتها البلاد خلال العهد البورقيبي من مساواة (وإن كانت غير كاملة) بين الجنسين وحريات المعتقد والسلوك المرتبط به (مهاجمة الحانات والمؤسسات السياحية، والاعتداءات العنيفة على المفطرين في رمضان وعلى النساء والفتيات السافرات ومرافقيهم). وتصاعدت وتيرة العنف لتعرف منعرجا خطيرا بعد الانتخابات التشريعية الأولى (1989) التي شارك فيها الإسلاميون عبر قائمات "مستقلّة" وحشدوا لها عتادا ماليّا ضخما بدا واضحا للجميع أنه كان يرد عليهم من خارج البلاد وخصوصا من دول الخليج الحاملة للواء الإسلام والتي كانت تكنّ للنموذج التونسي عداءا دفينا إذ كانت ترى فيه نظاما "تغريبيا" علمانيا يحاكي النموذج الكمالي في تركيا "المتنكّرة" للخلافة الإسلامية التي كان الوهابيون يريدون إحيائها انطلاقا من السعودية. وجنّد الإسلاميون ميلشيات جعلت تحرق خصومهم وتشوّه وجوههم وأجسادهم "بماء الفرق" في ذات الوقت الذي تحرّكت فيه ميليشيات التجمّع الدستوري الديمقراطي الحاكم ومختلف أصناف وفئات البوليس السياسي لتضرب على الإسلاميين طوقا استخباريا رهيبا ولتمارس عليهم أشكالا بشعة من العنف والترهيب والتنكيل. وصدرت على رموز الحركة وحتى على بعض المقرّبين منها أو المتعاطفين معها أحكام لا نسبة ولا مناسبة بينها وبين ما قد يكونوا اقترفوه فعلا أو أعدّوا له من أعمال. وأصيبت القطاعات الأوسع من قوى المعارضة الإصلاحية وحتى اليسارية الراديكالية (حزب العمّال الشيوعي مثلا) بعمى ألوان قاتل إذ أعطت علنا أو سرّا نوعا من "الصك على بياض" للنظام البوليسي الاستخباري الذي كان بصدد بسط نفوذه المطلق في البلاد. فقد نجحت المكنة الدعائية للنظام في وضع الجميع، في الداخل وفي الخارج على حدّ سواء، أمام ثنائية درامية مفتعلة: إمّا بن علي أو الدولة الإسلامية. وانساقت الأغلبية في هذه الرؤية المانوية الاختزالية بتعلّة "تأجيل" المعركة الديمقراطية الحاسمة ضد البوليس السياسي وضد الهيمنة التجمّعية إلى ما بعد "استئصال" الخطر الإسلاموي الذي ضخّمته الآلة الإعلامية الموالية بإطلاق لبن علي. وتوافدت على الوزارات وعلى دور التجمّع أعداد من "المعارضين" السابقين من يساريين وليبرالين انضمّوا تباعا إلى أجهزة الدولة-الحزب تحت يافطة "الإصلاح من الداخل" والمساهمة في "الانتقال التدريجي إلى الديمقراطية" مبرّرين ذلك بما آل إليه الأمر في الجزائر حيث أدّت اللعبة الانتخابية النزيهة الأولى (في 1992) إلى بروز الإسلامويين قوّة سياسية أولى بكل ما انجرّ عن ذلك من اقتتال اتّخذ شكل الحرب الأهلية واستهدف فيه الإسلاميون عددا كبيرا من المثقفين والمبدعين الذين كانت تجمعهم بالنخبة التونسية أواصر متينة. أمّا الإسلامويون التونسيون فقد تفكّك تنظيمهم، فرحل أغلب قادتهم ورموزهم إلى البلدان الأوروبية "العلمانية" حيث أتيح لهم المجال فسيحا ليعيدوا صياغة رؤاهم وبرامجهم وتكتيكاتهم تاركين قواعدهم وأنصارهم الذين كشفتهم العملية الانتخابية إمّا في السجون وإمّا في أحضان التجمّع الحاكم الذي لجأت إليه أعداد كبيرة منهم من باب الخيفة والتقية أو حتى من باب "الإصلاح من الداخل" على طريقتهم. بعد تصفية الإسلامويين، كانت الآلة البوليسية الرهيبة قد تعزّزت عدديا ونوعيا واكتسبت من القوّة والنفوذ والصلف ما جعلها لا تتورّع عن القمع الشرس لأية تعبيرة عن المغايرة أو النقد لنظام بن علي مهما كانت ضآلتها أو حتى نعومتها. ومن ثمّة بدأت حركة الهيمنة على كل قطاعات المجتمعين السياسي والمدني بحيث تمّ إخضاع كل الجمعيات المدنية والمنظمات الوطنية إلى مقتضيات "الإجماع" و"الوفاق الوطني" كما تمّ على نحو نسقي إخماد أو استبعاد كل الأصوات "الناشزة" داخل تلك الجمعيات والمنظمات. وكان اتحاد الشغل، باعتباره المنظمة الأكثر عراقة وجماهيرية، أولى المنظمات هدفا لذلك التدجين إذ فُرضت عليه قيادات مرتهنة بالكامل للسلطة وأُفرغت برامجه الاجتماعية من كل مصداقية نضالية حين أُرغم على القبول بعقد تفاوضي لم تعرفه من قبل أية منظمة نقابية في العالم: أن تكون "مفاوضاته" الاجتماعية مرتبطة بجدول زمني محدّد سلفا من قبل السلطة والأعراف يُلزم الشغالين على مدى ثلاث سنوات "يحجّر" فيها أيّ تحرّك للمطالبة بالترفيع في الأجور. وجعلت البيروقراطية النقابية تبادر إلى إلغاء معظم الإضرابات القطاعية عبر بيانات "اللحظة الأخيرة" التي كانت تشعر النقابيين بالقهر والخصاء. بل إن تلك البيروقراطية قد تحوّلت بمرور الوقت إلى "مخفّف صدمات" (amortisseur) تتكسّر عليه موجات الاحتجاج الاجتماعي والسياسي. في ذات الوقت أُلزمت المنظمة النقابية بقبول كل مقتضيات انخراط النظام التونسي في المرحلة الجديدة من الرأسمالية المعولمة عبر ما سمّي "مرونة التشغيل" الذي لم يكن في الواقع سوى شكل من السماح للشركات العابرة للقارات باستعباد اليد العاملة التونسية على نحو متوحّش وفي غياب الحدود الدنيا لإمكانية دفاعها عن حقوقها. وازدادت الهوّة اتّساعا بين النقابيين القاعديين والناشطين السياسيين "اللاجئين" إلى المنظمة النقابية بفعل الفراغ الحزبي والجمعياتي الرهيب، وبين القيادة البيروقراطية المتّهمة بالتواطؤ والفساد والتي أبدت مساندة شبه نسقية لترشيحات بن علي المتتالية للرئاسة وعبثه بالدستور الذي فقد نهائيا علويّته ومصداقيته. مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي جعلت تبرز على السطح بشائر حركة احتجاجية نجحت رغم طابعها الأقلي والمحدود في زعزعة نظام بن علي وآلتيه الإعلامية والبوليسية وبيّنت بالخصوص أنه ليس على تلك الدرجة من القوّة والتماسك التي كانت تنسب إليه. كانت البداية بأفعال انشقاق وتمرّد فردية من قبيل إضراب الجوع الذي شنّه الصحفي والكاتب توفيق بن بريك للمطالبة باسترداد جواز سفره وبحقه في التعبير الحر. وهي أفعال اضطرّت بن علي أن يتدخل لأوّل مرّة على نحو مباشر على شاشة التلفزة لا ليلقي وسط غابة من الكشكولات الحمراء والبنفسجية خطبة مطوّلة ومملّة عن إنجازات "التغيير" التي لا تحصى ولا تعدّ، وإنما ليحثّ مديري الصحف الذين اجتمع بهم في قصر قرطاج على مزيد من الجرأة في نقدهم (المعدوم أصلا) لنظامه!! بالتوازي مع ذلك تشكّل "الحزب الديمقراطي التقدّمي" من أطياف من المعارضين القادمين من آفاق مختلفة وأقلق السلطة عبر إعلانه التمرّد السلمي وتغايره الكامل مع "المعارضة" الموالية التي كانت شراستها في التشهير بالمناهضين لبن علي أشدّ أحيانا من شراسة الحزب الحاكم نفسه. وأقدم الحزب على تقديم ترشيح "وحشي" لأمينه العام آنذاك للرئاسة رغم أنه لم تكن تتوفّر فيه شروط "القانونية" المقدودة على قياس بن علي. وتتالت الحركات الاحتجاجية في شكل إضرابات جوع فردية أو جماعية أو من خلال نشريات ممنوعة مثل "قوس الكرامة" التي كان محرّروها والمتعاطفون معهم يوزّعونها علنا في المقاهي والأحياء الشعبية معرّضين أنفسهم إلى مخاطر الاغتيال والسجن وعائلاتهم إلى التشفي والتشريد. وأظهرت "حركة التجديد" درجة أعلى من المعارضة الفعلية إذ رفضت بوضوح ترشح بن علي لرئاسية 2004 وأعلنت بمعيّة نخبة من المستقلين وعدد من التشكيلات اليسارية الممنوعة من النشاط القانوني "المبادرة الديمقراطية" التي قدّمت مرشّحا منافسا جدّيا "لصانع التغيير". كما اتّخذت "الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان" طابعا أكثر راديكالية في مقاومتها للقمع البوليسي الذي كان يطال أصحاب الرأي والكلمة، ممّا حدا بالسلطة إلى تكميمها وإغلاق مقرّاتها. وتشكّلت لأوّل مرّة بتونس (منذ 2001) جمعية للكتّاب مغايرة جذريا لاتّحاد الكتّاب الموالي بإطلاق للسلطة والمليء بالمتملّقين والمخبرين وأكلة الفتات. فرغم عمليات المنع والتنكيل التي عانى منها مؤسّسوها، أعلنت "رابطة الكتّاب الأحرار" مناهضتها القصوى لخيارات السلطة السياسية والثقافية ونظّمت وسط حصار بوليسي رهيب ندوات ولقاءات حول الكتابة المقاوِمة وأدب السجون والكتب الممنوعة وحول القوانين الجائرة في المجالين الثقافي والجمعياتي...أمّا على المستوى الإعلامي فقد تحوّلت جريدتا "الموقف" و"الطريق الجديد" إلى منبرين حاولا على قدر ما كان يسمح به قانون الصحافة الجائر أن يبلّغا الأصوات "الناشزة" وسط مهرجانات التجويق و"المناشدة" التي كان يخوضها الإعلام الرسمي بكافة أصنافه. وهو ما جعلهما عرضة إلى كافة أشكال الحجب والتعطيل المباشرة أو المقنّعة. كما تلفّتت قطاعات واسعة من المشاهدين التونسيين عن القناة الرسمية الفاقدة كلّيا للمصداقية واتجهت أعينهم إلى بعض القنوات الفضائية العربية ("المستقلّة" في فترة ما، ثمّ قناة "الحوار" وخصوصا "الجزيرة") التي كانت تبث عن تونس أخبارا وتحاليل لم يكن ممكنا العثور عليها في أي منبر إعلامي داخلي. وصاغ النظام البوليسي (الذي كان في الأثناء قد تحوّل إلى نظام مافيوي ارتشائي رهيب حوّل خيرات البلاد إلى أرصدة عائلة بن علي وأصهاره) تهمة مضحكة جعل يلصقها بكل من يقول فيه كلاما ناقدا: "التعامل مع جهات أجنبية مشبوهة والإساءة إلى صورة تونس وسمعتها"!! وعادت لفظة "الحماية" لتطفو بقوّة على سطح القاموس السياسي والإعلامي الرسمي إذ اعتبر بن علي "حامي الحمى والدين" كما راح رموز التجمّع يروّجون لحزبهم باعتباره "حامي الوطن من التدخلات الأجنبية" و"المؤتمن على التغيير". غير أن المجال الذي انتعش فيه الحراك الاحتجاجي على نحو غير مسبوق عبر انبثاثه في قطاعات جديدة من الفاعلين هو المجال الإعلامي الافتراضي بواسطة الشبكات الاجتماعية. فقد التقى عبرها عشرات الآلاف من المدوّنين والناشطين معظمهم من الشباب الذين لم تجمعهم من قبل أنشطة سياسية احتجاجية "واقعية". ورغم عمليات الرقابة والحجب وحتى التنكيل الجسدي المباشر التي مارسها عليهم "الأخ الأكبر" فإنهم نجحوا في تبادل كمّيات مهولة من المعلومات والصور والنصوص وأغاني الراب والسكاتشات الجدّية أو الساخرة من نظام بن علي وعائلته الفاسدة المتغطرسة وأعوانه الدمويين. وتجلّت الفاعلية السياسية لتلك الشبكات الاجتماعية في أوّل مواجهة واسعة النطاق بين الديكتاتورية البنعليّة وقطاع عريض من ضحايا سياسته التنموية الجائرة واللامتوازنة: أحداث "الحوض المنجمي" التي خرج فيها الآلاف من أبناء ولاية قفصة المعطّلين والمهمّشين في حركة مناهضة غير مسبوقة للأجهزة البوليسية القمعية. وفضحت المقاطع المصوّرة بالهواتف الجوّالة والمتداولة على الشبكات الاجتماعية عمليات التقتيل والتنكيل البشعة التي تعرّض لها أبناء الجهة المطالبون بحقوقهم الدنيا في العمل والعيش الكريم وفي التمتّع بالثروات الطبيعية التي تزخر بها منطقتهم وفي رفضهم لنموذج "المناولة" الذي كان يستفيد منه الضالعون في الفساد من الموالين للنظام وحتى من بعض رموز البيروقراطية النقابية. كانت تلك لحظة فارقة في تاريخ "العهد الجديد". لحظة بشّرت بظهور حراك ثوري سيتّسع نطاقه ضمن "جيوب" جغرافية أخرى في مناطق الجنوب على وجه الخصوص. وتزعزعت بالتالي صورة النظام البوليسي القمعي الذي لا يقهر إذ بدا على العكس هشا ومتفككا خصوصا من خلال أحكامه المفرطة في قساوتها على قادة ومؤطّري تلك التحرّكات الاجتماعية من المناضلين النقابيين النزهاء الذين تعاطفت معهم قطاعات واسعة من المجتمعيْن السياسي والمدني ومن المنظمات الإنسانية الدولية. وتجلّت تلك الهشاشة على نحو أكبر بعد تداول الشبكات الاجتماعية لوثائق "ويكيليكس" التي كشفت تقارير الدوائر الاستخباراتية الأمريكية عن الوضع التونسي المتردّي سياسيا وأمنيا وعن تضخّم المافيا العائلية التي وضعت يدها بالكامل على ثروات البلاد. وهي التقارير التي دعّمت ما كان التونسيون العاديون يتداولونه همسا من أخبار وفضائح وما قرأوه في كتاب "حاكمة قرطاج" الذي راجت نسخته الإلكترونية على نحو كبير بين التونسيين إلى درجة أن "بطلته" رفعت قضيّة لدى السلطات الفرنسية من أجل منعه في ذات الوقت الذي "حثّت" فيه عددا من مرتزقة الكتابة والصحافة على تحبير صفحات طويلة عنها تشيد بعبقريتها الفذة ونضاليتها النسوية العالية ورفقها الإنساني الغامر بالمعاقين وبمرضى السرطان! ترهّل نظام "صانع التغيير" إذن في ظروف تكاد تكون نسخة طبق الأصل من تلك التي ترهّل وتهاوى فيها نظام "المجاهد الأكبر" مع فرق أساسي واحد هو أن هذا الأخير كان قد حافظ على نظافة يده ولم ينهب أموال الشعب، بينما بلغت سرقات بن علي وأصهاره ذروة تتجاوز خيال الروائي بآلاف السنوات الضوئية. فقد أصيب كل منهما بجنون العظمة الذي منعهما من استحضار مجرّد فرضية أنهما قابلان للتعويض. وهُمّش كلاهما وسط قصره ليصبح دمية بين يدي زوجة (أو قريبة) متسلّطة وذات نفوذ واسع وعلاقات متشابكة ليشكّل مجرّد واجهة عبر صورة يومية في وسائل الإعلام، في الوقت الذي تخوض فيه مكوّنات الحاشية المتمركزة حول "الرئيسة" صراعاتها الشرسة من أجل "الخلافة". وتحوّلت صورة المستبد ونظامه وعائلته من بعبع يثير الرعب والرهبة إلى مسخرة تتداول حولها النكات والإشاعات الفضائحية ذات البهارات الجنسية والدلالات السياسية والاجتماعية العميقة. وعلى الضفة الأخرى كان الاحتقان الاجتماعي يتصاعد في ملاعب الكرة وفي الأحياء المهمّشة والمحرومة وفي أوساط الشباب المعطّل الذي لم يجد من ملاذ سوى في الهجرة السرية نحو أوروبا متحمّلا مخاطر الموت المؤكّد التي كانت تحفّ رحلته البحرية اليائسة. من ثمّة جاءت ضرورة تنسيب القناعة المتداولة بأن الثورة كانت "فجئية" و"تلقائية". ربّما كانت هناك فجاءة في الكيفية والسرعة التي فرّ بها بن علي وتفكّك نظامه الاستبدادي وفي العدد المحدود نسبيا من الضحايا مقارنة بالثورات التي عرفتها الإنسانية قبلنا. لكن لا شيء يأتي من العدم. فاللحظة الثورية التونسية أسّست لها مراكمات أجيال حلمت بالثورة كلّ على طريقته. كان هناك نوع من الصيران الثوري التحت-أرضي الذي عبّر عن نفسه من خلال كل ما كنا نستعرضه من حراكات شكّلت ضروبا من المجاري التي صبّت كلّها في النهر الكبير، نهر النيران التي احترقت بها أجساد المنتحرين احتجاجا والنيران التي أطلقت على رؤوس وصدور الذين هبّوا تفاعلا مع تطلّعهم للحرية والكرامة والعدالة، ونهر مئات الآلاف من الحناجر التي تجمّعت ذات 14 جانفي بقلب العاصمة منادية برحيل الطاغية. لكنّ هذه اللحظة الثورية ينبغي أيضا أن ينجم عنها صيران ثوري يقطع على نحو موجب وفاعل ومبدع مع فكر وسلوك الاستبداد لا فقط على الصعيد السياسي وإنما أيضا على الأصعدة الاجتماعية والنفسية والثقافية. فالثورة كما الاستبداد حالة كيانية تنزرع في ثنايا الذوات وتبعث فيها ممكنات شتّى، متناقضة أحيانا وقابلة لأن تنقلب بعضها إلى بعض. إن إرادة الحرية التي عبّرت عنها اللحظة الثورية التونسية وانتقلت جذوتها إلى بلدان عربية أخرى مفتوحة، مثل كل اللحظات الثورية الكبرى التي عرفتها الإنسانية، على ممكنات شتّى تتراوح بين قطبين: قطب الإبداع الفردي والجماعي الذي يقطع جذريا على الأصعدة كافة مع عقلية الاستبداد مؤسّسا لفن حياة جديد ولفعل وجود لا ينفكّان يمضيان عميقا في ارتياد ممكنات الحرية وابتكاراتها اللامحدودة، وقطب الانتكاس المشدود فكرا وفعلا إلى عقلية الاستبداد والهيمنة باسم "الإجماع" و"وحدة المصير" و"حماية الثورة" وغيرها من الشعارات التي تعيد إنتاج الكليانية حتى لو كانت منطلقاتها صادقة. فالاستبداد لا ينقرض بانقراض المستبدّ ونظامه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني، لأنه يضرب عميقا في العقليات الفردية والجماعية. ومن ثمّة جاءت ضرورة الدفع بالمسار الثوري نحو ديمومة تجعله ينتج بلا انقطاع آليات تحصينه ذاته من كل السبل الارتكاسية التي من شأنها أن ترتدّ به ضديدا لإبداعيّته ذاتها، عسانا نكذّب هذه المرّة تلك المقولة الشهيرة التي مفادها أن «الثورة تأكل أبناءها».

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article